المشهد الداخلي في منتهى الارباك، وبات مشرّعاً اكثر من أي وقت مضى على كل الاحتمالات السلبية. وسط لامبالاة متعمّدة ممّا قد تحمله من اعباء واكلاف على كل المستويات. فشرارات الاشتباك على ما يرى اللبنانيون، تتعالى في الأجواء الداخلية على مدار الساعة وتُنذر بحروب سياسية وربما غير سياسية، متنقلة على الجبهات، يمهّد لها الكلام الذي صار على المكشوف؛ تهديد ووعيد وتلويح بالويل والثبور وعظائم الامور، وإسقاط متعمّد للحرمات، واباحة الاهانات وبذاءة التخاطب، وضرب موجِع تحت الزنار وفوقه وبلا قفازات. وما يزيد هذا المشهد قرفا، هو الاعتداء على عقول الناس، بادّعاء القداسة والنزاهة والوطنيّة والبطولات والانجازات الوهمية.

ازاء هذا المشهد، تخوفت مصادر مسؤولة من واقع مظلم مقبل عليه لبنان، وقالت لـ"الجمهورية" انه مع الغاء رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ مبادرته الحوارية، يصبح المشهد الداخلي مُفلساً من اي فرصة للانعاش الداخلي واعادة ضبط الرئاسة الاولى على سكة الانتظام، ومع غياب ضابط الايقاع في اتجاه الانتعاش والانتظام، يُخشى من ان يتدرّج الوضع الداخلي سريعا نحو الأسوأ وعلى نحو لا يمكن احتواؤه، او تحمّل ضربات او آثار الامواج التي تتلاطمه من الداخل، وربما من الخارج ايضا.

ولفتت المصادر الى أن بري قرأ هذا الواقع سلفا، وان التناقضات الداخلية ستقود اليه حتماً، ومن هنا جاءت مبادرته مع بداية ولاية المجلس النيابي الحالي بوصفه عاكساً لمكونات البلد، الى ان يحدث خرقا ايجابيا في جدار هذه التناقضات، ويوجه بوصلة الرئاسة وكل استحقاقات البلد في الاتجاه الذي يقوده الى بر الامان، بقوله: «على المجلس النيابي الحالي، تقع مسؤولية انقاذ لبنان».

واذا كان رئيس مجلس النواب نبيه بري في بيان إلغاء مبادرته الحوارية، قد اشار بوضوح الى المسؤول المباشر عن رفض حوار يسحب بداية فتيل الاشتباك المُشتعل، ويمهّد بالتالي الى التوافق بين المكونات السياسية والنيابية الذي لا يمكن للاستحقاق الرئاسي ان يعبر من دونه. فإنه في بيانه هذا، لا يخاطب الداخل حصراً، بل انّه خاطب كل الاتجاهات المعنية بالاستحقاق الرئاسي، في الداخل، وكذلك اصدقاء واشقاء لبنان في الخارج، وعلى وجه الخصوص الذين يؤكدون باستمرار على مسؤولية اللبنانيين في إتمام هذا الاستحقاق والتوافق سريعا على رئيس جديد للجمهورية.

على ان الصورة الداخلية القائمة بتناقضاتها العلنية او المستترة، وعلى ما تقول لـ"الجمهورية" مصادر سياسية واسعة الاطلاع لا يمكن ان تُفضي الى توافق على رئيس للجمهورية. حيث تبدو الاطراف المعنية بهذا الاستحقاق في ذروة اشتباكها، وخصوصا الطرفان المارونيان ​القوات اللبنانية​ و​التيار الوطني الحر​ اللذان رسم كلّ لنفسه سقفا عاليا من الشروط، وألزم نفسه بالتمسّك بها من دون اي استعداد لمجاراة اي فريق آخر بطروحاته.

وتستغرب المصادر المقولة التي يكررها بعض الاطراف المسيحيين السياسيين وغير السياسيين من انّ الوقت الآن ليس للحوار، بل لأن يمارس المجلس النيابي دوره المطلوب منه بانتخاب رئيس للجمهورية. إنما السؤال كيف يتم ذلك والمشهد السياسي العام أشبَه بغابة يتحفّز فيها كل طرف للانقضاض على الطرف الآخر، وإلغائه. والمجلس النيابي منقسم على نفسه، ولا يملك اي طرف الاكثرية المرجحة لفوز اي شخصية برئاسة الجمهورية.

كما تستغرب المصادر «هذا الاصرار على شروط لن تحقق الغاية التي ترجوها «القوات» كما لن تحقق الغاية التي يرجوها التيار، فلا القوات قادرة على ايصال شخصية لرئاسة الجمهورية، وتغطّي عجزها هذا بالهروب الى الامام تارة بطرح مواصفات «سيادية - قواتية»، وتارة ثانية بتبنّي ترشيح النائب ميشال معوض على رغم ادراكها المسبق بأنه سيفشل، وتارة ثالثة بتبني ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون، علماً ان تساؤلات كثيرة احاطت بهذا الترشيح، عما اذا كان ترشيحا جديا او ترشيحا القَصد منه حرق اسم العماد عون. ولا التيار، وبعدما فقد كل اوراق القوة التي مَلّكه اياها وجود ​الرئيس ميشال عون​ في رئاسة الجمهورية، قادر على ايصال اي مرشح لرئاسة الجمهورية سواء اكان رئيسه ​جبران باسيل​، او اي شخصية يطرحها. فضلاً عن انهما معا إن حكمت ظروف معينة بالتقائهما مُكرهين لا يستطيعان بقوتهما العددية في مجلس النواب ان يوصِلا اي مرشح يتفقان عليه، الا بالتوافق والنقاش مع سائر الاطراف.

معنى ذلك، في رأي المصادر ان الحوار سيحصل في نهاية المطاف، والآن يمكن القول ان فرصة الحوار قد ضاعت، ولكن من غير المستبعد ابداً ان تنشأ ظروف اقوى من الجميع، ستدفع حتما الى تعالي الاصوات من كل حدب وصوب منادية بهذا الحوار، ومتوجهة بالتحديد نحو الرئيس بري لإعادة احياء مبادرته.

الإدارة الفرنسية غير مرتاحة لما آل إليه الوضع في لبنان

الى ذلك، ابلغت مصادر ديبلوماسية في باريس الى «الجمهورية» عدم ارتياح الادارة الفرنسية لما آل اليه الوضع في لبنان، لناحية عدم تمكّن اللبنانيين من انتخاب رئيس للجمهورية. وقالت: مؤسف جدا ان يضيع اللبنانيون فرصة جديدة لإنقاذ بلدهم، والاتفاق على رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة تحقق الانفراج للبنانيين وتُطلق مسار الاصلاحات.

ولفتت المصادر الى ان باريس تعتبر ان معاناة لبنان في ظل الوضع السائد فيه حالياً سيقود الى انهيار واسع وكبير جدا، ومُرهق للبنانيين، ومن هنا هي كانت وما زالت تشجع اي حوار بين اللبنانيين (في اشارة الى الحوار الذي كان يعدّ له الرئيس نبيه بري) يمكّنهم من اتمام استحقاقاتهم، وفي مقدمها انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، تحقق ما يتوق اليه اللبنانيون.

وردا على سؤال حول ما اذا كانت ثمة مبادرة فرنسية ما تجاه لبنان، في المدى المنظور، لم تستبعد المصادر هذا الاحتمال الا انها لم تؤكده، حيث قالت انه ممكن، وباريس لما يمثّله لبنان بالنسبة اليها، كانت السباقة دائما الى الى اطلاق المبادرات التي رعاها مباشرة الرئيس ​ايمانويل ماكرون​.

اعتذار بري عن الحوار يقلّص فرص التوافق على مرشح رئاسي

في ظل رفض القوى المسيحية المؤثرة للحوار، أكدت مصادر قريبة من رئيس مجلس النواب نبيه بري أنه يحترم خيارات الكتل، وجددت التأكيد على أن «الدعوة للحوار ليست جريمة، بل فضيلة رغم إحجام البعض عنها»، مضيفة في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «في الوقت الذي يتراكم فيه هذا الكم الهائل من الأزمات، إذا لم يكن الحوار سبيلاً لحل الأزمات، فكيف يمكن مقاربة الأزمات؟».

وحذرت المصادر من أنه بعد أربع جولات من جلسات انتخاب الرئيس «هل من لا يريد الحوار يسعى للعودة إلى الدوران في الحلقة المفرغة نفسها، سيما وأن خارطة التباينات لم تتغير؟». وشددت على أن الدعوة، التي كانت محصورة ببند وحيد هو انتخاب رئيس للجمهورية، «هي بخلفية وطنية لإعادة جمع اللبنانيين»، منبهة إلى أن لا شيء يمكن أن يجمع اللبنانيين في حال فقدان ميزة الحوار.

غير أن أسباب رفض الحوار لدى «القوات اللبنانية»، تتخذ منحى آخر. وتشير مصادر «القوات» إلى أنه «في الدستور اللبناني هناك آليات دستورية واضحة لانتخاب رئيس الجمهورية، وهذا الانتخاب لا يخضع لحوار، بل ينتخب بموجب شروط موجودة في الدستور، وهي مسألة من طبيعة انتخابية ديمقراطية وليست مسألة حوارية»، لافتة في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الحوار حول انتخاب الرئيس يصبح كأنه مسألة معلبة يجري إسقاطها على مجلس النواب».

وشددت المصادر على «وجوب احترام الآليات المنصوص عليها في الدستور»، مطالبة «بأن يدعو رئيس مجلس النواب لجلسة تكون على غرار جلسات الموازنة بدورات مفتوحة، وكل من يتخلف عن الحضور يتحمل المسؤولية أمام الناس والرأي العام بأنه يريد إفراغ موقع الرئاسة». وأوضحت المصادر ضرورة «أن نبقى على هذا المنوال بدورات انتخابية مفتوحة، وتحصل مناقشات وحوارات بين دورة ودورة بين النواب من أجل الوصول للرئيس مما يشكل ضغطاً معنوياً على النواب لانتخاب رئيس».

ويمضي استحقاق انتخاب الرئيس نحو تأزم إضافي في ظل غياب توافقات أغلبية نيابية على شخصية محددة، أو اختصار المرشحين بين اثنين أو ثلاثة، فيما تنقسم القوى النيابية داخل البرلمان إلى ثلاثة اليوم، أولها فريق «القوات اللبنانية» وحلفاؤها الذين يدفعون باتجاه ترشيح النائب ميشال معوض، و«حركة أمل» وحلفاؤها الذين يميلون إلى ترشيح رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية من غير الإعلان عن ذلك، و«التيار الوطني الحر» الذي رفض طرح «حزب الله» للمضي باثنين، أولهما رئيس التيار جبران باسيل أو فرنجية، حيث قال باسيل إن الحزب حين فاتحه بالملف، دعا لتوافق مع الحزب وفرنجية على شخصية ثالثة.

وترى مصادر مواكبة للحراك الانتخابي في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن إقفال الباب على التوافقات «سيؤدي إلى منازلة انتخابية في البرلمان، حيث يفوز الحاصل على أعلى تصويت في الدورة الثانية، إذا لم يُفقد نصاب الجلسة»، وبذلك يكون أول رئيس منذ الطائف لم يُنتخب وفق توافقات مسبقة.